فصل: ذكر فتوحه جبلة واللاذقية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر فتوح القدس الشريف حرسها الله تعالى:

ولما تسلم عسقلان والأماكن المحيطة بالقدس شمّر عن ساق الجدّ والاجتهاد في قصده، واجتمعت عليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل بعد انقضاء لبانها من النهب والغارة فسار نحوه معتمداّ على الله معوضاً أمره إليه منتهزاً فرصة فتح باب الخير الذي حثّ عليه صلّى الله عليه وسلّم بقوله: من فتح باب خير فلينتهز بأنه لا يدري متى يغلق دونه، وكان نزوله عليها في الخامس عشر من رجب سنة ثلاثة وثمانين المباركة، فنزل في الجانب الغربي، وكان مشحوناً بالمقاتلة والخيانة والرجالة. ولقد تحازر أهل الخبرة عدة من كان فيه من المقاتلة بما يزيد على ستين ما عدا النساء والصبيان. ثم انتقل رحمه الله لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي ونصب عليه المناجيق، وضايقه بالزحف والقتال وكثرة الرماة حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم في قرنة شمالية. ولما رأى أعداء الله ما نزل بهم من الأمر الذي لا يندفع عنهم وظهرت لهم أمارات نصرة الحق على الباطل وكان قد ألقى في قلوبهم الرعب مما جرى على أبطالهم ورجالهم من السبي والقتل والأسر، وما جرى على حصونهم من الاستيلاء والأخذ علموا أنهم إلى ما صاروا إليه صائرون. وبالسيف الذي قتل به إخوانهم مقتولون، فاستكانوا وأخلدوا إلى طلب الأمان، واستقرت القاعدة بالمراسلة بين الطائفتين، وكان تسلمه القدس قدس الله روحه في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب وليلة كانت المعراج المنصوص عليها في القرآن المجيد. فانظر إلى هذا الاتفاق العجيب كيف يسّر الله عوده إلى أيدي المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم صلّى الله عليه وسلّم وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى، وكان فتوحاً عظيماً شهده من أهل العلم خلق عظيم ومن أرباب الحرف والطرق، وذلك أن الناس لما بلغهم ما يسّر الله على يده من فتوح الساحل، وشاع قصده القدس، قصده العلماء من مصر ومن الشام بحيث لم يتخلف معروف من الحضور، وارتفعت الأصوات بالضجيج والدعاء والتهليل والتكبير، وخطب فيه، وصليت فيه الجمعة يوم فتحه. وحطّ الصليب الذي كان على قبة الصخرة وكان شكلا عظيما، ونصر الله الإسلام نصر عزيز مقتدر. وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرة دنانير وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية وعن كل صغير ذكر أو أنثى ديناراً واحداً فمن أحضر القطيعة سلم نفسه وإلا أخذ أسيراً أو فرج الله عمن كان أسيراً من المسلمين وكان خلقاً عظيماً زهاء ثلاثة آلاف أسير وأقام رحمه الله يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والعلماء وإيصال من دفع قطيعته منهم إلى مأمنه وهو صور. ولقد بلغني أنه رحل عن القدس ولم يبق له من ذلك الملك شيء وكان مائتي ألف دينار وكان رحيله يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان.

.ذكر قصده صور:

ولما ثبت قدم السلطان بملك القدس والساحل قويت نفسه على قصد صور وعلم أنه إن أخر أمرها ربما اشتد فرحل سائراً إليها حتى عكا فنزل عليها ونظر في أحوالها ثم رحل متوجهاً إلى صور يوم الجمعة خامس شهر رمضان وسار حتى أشرف عليها ونزل قريباً منها ينتظر وصول آلات القتال وكان لما تحرر عزمه على قصد صور سير إلى ولده الملك الظاهر يستحضره وكان قد تركه بحلب ليسد ذلك الجانب لاشتغاله هو بأمر الساحل فقدم عليه في الثامن عشر على تلك المنزلة وسر بوصوله سروراً عظيماً، ولما تكاملت عنده آلات القتال من المناجيق والدبابات والسنائر وغير ذلك نزل عليها في الثامن والعشرين وضايقها وقاتلها قتالاً عظيماً واستدعى أسطول مصر وكان يحاصرها من البحر والعسكر من البر وكان قد خلف أخاه الملك العادل بالقدس يقرر قواعده فاستدعاه فوصل إليه في خامس شوال وسير من حاصر هونين فسلمت في الثالث والعشرين من شوال.

.ذكر كسرة الأسطول:

وذلك أنه قدم على الأسطول إنسان يقال له الفارس بدران وكان ناهضاً جلداً في البحر وكان رئيس البحريين يقال له عبد المحسن وكان قد أكد عليهم الوصية وأخذ حذرهم وتيقظهم لئلا تنتهز منهم فرصة فخالفوه وغفلوا عن أنفسهم في الليل فخرج أسطول الكفار من صور وكبسوهم وأخذوا المقدمين مع خمسة قطع وقتلوا خلقاً عظيماً من الأسطول الإسلامي وذلك في السابع والعشرين من شوال فلما علم السلطان ما تم على المسلمين ضاق عطنه وكان قد هجم الشتاء وتراكمت الأمطار وامتنع الناس من القتال من شدة المطر فجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بالرحيل ليأخذ العسكر جزأً من الراحة ويستعدوا لهذا الأمر استعداداً جديداً فرأى ذلك رأياً ورحل عنها بعد أن رمى المنجنيقات وسيرها وأحرق مالا يمكن ثقله وكان رحيله ثاني ذي القعدة من هذه السنة ففرق العساكر وأعطاها دستوراً وسار كل قوم إلى بلادهم وأقام هو مع جماعة من خواصه بعكا حتى دخلت سنة أربع وثمانين.

.ذكر نزوله على كوكب:

ولما دخلت عليه هذه السنة المباركة رأى الاشتغال بالحصون الباقية لهم مما يضعف قلوب من في صور وينهي أمرها به فاشتغل بذلك ونزل على كوكب في أوائل محرم وكان سبب بداءته بكوكب أنه قد جعل حولها جماعة يحفظونها من أن تدخل إليهم قوة فخرج الإفرنج ليلاً وأخذوا غرتهم وكبسوهم بعفربلا وقتلوا مقدمهم وكان من الأمراء ويعرف بسيف الدين أخي الجاولي وأخذوا أسلحتهم فسار رحمه الله من عكا ونزل عليها بمن معه من خواصه فإنه كان قد أعطى العساكر دستوراً وعاد أخوه إلى مصر وولده إلى حلب ولقي في طريقه شدة من الثلج والبرد فحملته مع ذلك الحمية على النزول عليها وأقام يقاتلها مدة. وفي تلك المنزلة وصلت إلى خدمته فإني كنت قد حججت سنة ثلاث وثمانين وكانت وقعة ابن المقدم وجرح يوم عرفة على عرفة لخلف جرى بينه وبين أمير الحاج طستكين على ضرب الكؤوس والدبدبة فإن أمير الحاج نهاه عن ذلك فلم ينته ابن المقدم وكان من أكبر أمراء الشام وكان كثير الغزاة فقدر الله أن جرح بعرفة يوم عرفة ثم حمل إلى منى مجروحاً ومات بمنى يوم الخميس يوم عيد الله الأكبر وصلي عليه في مسجد الخيف في بقية ذلك اليوم ودفن بالمعلا وهذا من أتم السعادات وبلغ ذلك السلطان فشق عليه ثم اتفق لي العود من الحج إلى الشام لقصد القدس وزيارته والجمع بين زيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم وزيارة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوصلت إلى دمشق ثم خرجت إلى القدس فبلغه خبر وصولي فظن أني وصلت من جانب الموصل في حديث فاستحضرني عنده وبالغ في الإكرام والاحترام. ولما ودعته ذاهباً إلى القدس خرج لي بعض خواصه وأبلغني تقدمه إلي بأن أعود أتمثل في خدمته عند العود من القدس فظننت أنه يوصيني بمهم إلى الموصل وانصرفت إلى القدس يوم رحيله عن كوكب ورحل لأنه علم أن هذا الحصن لا يؤخذ إلا بجمع العساكر عليه وكان حصناً قوياً وفيه رجال شداد من بقايا السيف وميرة عظيمة فرحل إلى دمشق وكان دخوله إليها في سادس ربيع الأول. وفي ذلك اليوم اتفق دخولي إليها عائداً من القدس وأقام بها خمسة أيام فكان له عنها ستة عشر شهراً وفي اليوم الخامس بلغه خبر الإفرنج أنهم بحبيلا واغتالوها فخرج مسرعاً ساعة بلوغ الخبر وكان قد سير إلى العساكر يستدعيها من سائر الجوانب وسار يطلب حبيلا فلما عرف الإفرنج بخروجه كفوا عن ذلك. وكان بلغه وصول عماد الدين وعسكر الموصل ومظفر الدين إلى حلب قاصدين الخدمة للغزاة فسار نحو حصن الأكراد في طلب الساحل الفوقاني.

.ذكر دخوله الساحل الأعلى وأخذهِ اللاذقية وجبلة وغيرهما:

ولما كان مستهل ربيع الآخر نزل على تل قبالة حصن الأكراد ثم سير إلى الملك الظاهر والملك المظفر أن يجتمعا وينزلا بتبرين قبالة أنطاكية ليحفظ ذلك الجانب وسارت عساكر الشرق حتى اجتمعت لخدمة السلطان في هذه المنزلة ووصلت إليه بها على عزم المسير إلى الموصل متجهزاً لذلك فلما حضرت عنده فرح بي وأكرمني وكنت قد جمعت له كتاباً في الجهاد بدمشق مدة مقامي فيها يجمع أحكامه وآدابه فقدمته بين يديه فأعجبه وكان يلازم مطالعته وما زلت أطلب دستوراً في كل وقت وهو يدافعني عن ذلك ويستدعيني للحضور في خدمته في كل وقت ويبلغني على ألسنة الحاضرين ثناءه علي وذكره إياي بالجميل فأقام في منزلته ربيعاً الآخر جميعه وصعد في أثناءه إلى حصن الأكراد وحاصرها يوم مجيئه بها فما رأى الوقت يحمل حصاره واجتمعت العساكر من الجوانب وأغار على بلد طرابلس في الشهر دفعتين ودخل البلاد مغيراً ومختبراً لمن بها من العساكر ويقويه العساكر بالغنائم ثم نادى في الناس في أواخر الشهر إنا داخلون الساحل وهو قليل الأزواد والعدو يحيط بنا في بلاده من سائر الجوانب فاحملوا زاد شهر ثم سير إلي مع الفقيه عيسى وكشف إلي أنه ليس في عزمه أن يمكنني من العود إلى بلادي وكان الله قد أوقع في قلبي محبته منذ رأيته وحبه الجهاد فأحببته لذلك وخدمته من تاريخ مستهل جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وهو يوم دخوله الساحل وجميع ما حكيته قبل إنما هو روايتي عمن أثق به ممن شاهده، ومن هذا التاريخ ما سطرت إلا ما شاهدته أو أخبرني به من أثق به خبراً يقارب العيان والله الموفق، ولما كان يوم الجمعة رابع جمادى الأولى رحل السلطان على تعبية لقاء العدو ورتب الأطلاب وسارت الميمنة أولاً ومقدمها عماد الدين زنكي والقلب في الوسط والميسرة في الآخر ومقدمها مظفر الدين وسار الثقل في وسط العسكر حتى أتى المنزل فبتنا تلك الليلة في بلد العدو ثم رحل ونزل على العريمة فلم يقاتلها ولم يتعرض لها ووصل في السادس إلى أنطرسوس فوقف قبالتها ينظر إليها وكان في عزمه الاجتياز فإنه كان له عمل بجبلة فاستهان بأمرها فعزم على قتالها فسير من رد الميمنة وأمرها بالنزول على جانب البحر ولها برجان كالقلعتين حصينان وركب هو وقارب البلد وأمر الناس بالزحف والقتال فلبسوا لامة الحرب والقتال والزحف وضايقهم فما استتم نصب الخيم واشتغلوا بالنهب والكسب ووفى بقوله نتغدى بأنطرسوس إن شاء الله وعاد إلى خيمته فرحاً مسروراً. وحضرنا عنده للهناء بما جرى ومد الطعام وحضر الناس وأكلوا على عادتهم ورتب على البرجين الباقيين الحصار فسلم أحدهما مظفر الدين فما زال يحاصره حتى أخرجه وأخذ من كان فيه وأمر السلطان بإخراب سور البلد وقسمه على الأمراء وشرعوا في إخرابه وأخذوا يحاصرون الآخر. وكان حصناً منيعاً مبنياً بالحجر النحيت وقد اجتمع من كان فيها من الخيالة والبصارقة والمقاتلة وخندقه يدور فيه الماء وفيه فروج كثيرة يخرج الناس منها عن بعد وليس له قدر يخرج عليه مسلم فرأى السلطان تأخير أمره والاشتغال بما هو أهم منه فاشتد في إخراب السور حتى أتى عليه وخرب البيعة وهي بيعة عظيمة عندهم محجوج إليها من أقطار بلادهم وأمر بوضع النار في البلد فأحرق جميعه حتى كان تتأجج النار في إرزه وبيوته والأصوات مرتفعة بالتهليل والتكبير فأقام عليها يخربها إلى الرابع عشر وسار يريد جبلة وكان عرض له ولده الملك الظاهر في أثناء طريق جبلة فإنه طلبه وأمره أن يحضر معه جميع العساكر التي كانت بتبرين.

.ذكر فتوحه جبلة واللاذقية:

ووصل إلى جبلة في الثامن عشر وما استتم نزول العساكر حتى أتى البلد وكان فيه مسلمون مقيمون فيه وفاض يحكم بينهم وكان قد عمل على البلد فلم يمتنع وبقيت القلعة ممتنعة فاشتغل بقتالها فقاتلت قتالاً يقيم عذراً لمن كان فيها وسلمت بالأمان في التاسع عشر وأقام عليها إلى الثالث والعشرين وسار عنها يطلب اللاذقية وكان نزوله عليها في الرابع والعشرين وهي بلد مليح خفيف على القلب غير مستور. وله ميناء مشهورة وله قلعتان متصلتان على تل مشرف على البلد فنزل محدقاً بالبلد وأخذ العسكر منازلهم مستديرين على القلعتين من جميع نواحيها إلا من ناحية البلد واشتد القتال وعظم الزحف وارتفعت الأصوات وقوي الضجيج إلى آخر اليوم المذكور. وأخذ البلد دون القلعتين وغنم الناس منه غنيمة عظيمة فإنه كان بلد التجار ففرق بين الناس الليل وهجومه وأصبح يوم الجمعة مقاتلاً مجتهداً في أخذ النقوب وأخذت النقوب من شمالي القلاع وتمكن منها النقب حتى بلغ طوله على ما حكي لي من ذرعه ستين ذراعاً وعرضه أربعة أذرع واشتد الزحف عليهم حتى صعد الناس الجبل وقاربوا السور وتواصل القتال حتى صاروا يتحاذفون بالحجارة باليد فلما رأى عدو الله ما حل بهم من الصغار والبوار استغاثوا بطلب الأمان عشية الجمعة الخامس والعشرين من الشهر وطلبوا قاضي جبلة يدخل إليهم ليقرر لهم الأمان فأجيبوا إلى ذلك وكان رحمه الله متى طلب منه الأمان لا يبخل به رفقاً فعاد الناس عنهم إلى خيامهم واستقر الحال معهم على أنهم يطلقون بنفوسهم وذراريهم وأموالهم خلا الغلال والذخائر وآلات السلاح والدواب وأطلق لهم دواب يركبونها إلى مأمنهم ورقي عليها العلم الإسلامي المنصور في بقية ذلك اليوم وأقمنا عليها إلى السابع والعشرين.